بقلم د/سماح عزازي
في زمن تتشابك فيه الخيانة مع ملامح العاديين، وتختبئ أخطر الجرائم خلف وجوه وديعة وبطاقات هوية وطنية، تصبح الحكايات التي تكشف تلك الوجوه أكثر من مجرد قصص، إنها صفعات توقظ الوعي، وتحذر الأوطان من خناجر الداخل قبل سهام الخارج.
لم يكن بطلاً روائيًا يثير الخيال، ولا شبحًا يتسلل بين الحدود بجوازات مزيفة، بل كان شابًا من لحم ودم، يمشي بيننا في هدوء، يحمل شهادته في الهندسة النووية، وابتسامة باهتة، وملامح لا تثير الريبة. لكن في قلبه، كانت بذرة سوداء تنمو — بذرة أطماع لم تعرف الصبر، وخيانة لم تحتج سوى فرصة.
تبدأ القصة كما تبدأ كل حكايات الخيانة؛ خطوة صغيرة نحو إغراء، كلمة عابرة تُزرع في عقلٍ طامع، وعد بالدولار والراحة، ثم تتحول تلك الوعود إلى سلسلة من الأكاذيب، وتتحول السلسلة إلى قيد يربط الخائن بصفقة الشيطان. وهنا، لا يعود الوطن في نظره سوى ورقة على طاولة مساومة، ولا العلم الذي يحمله سوى سلعة تُعرض للبيع.
لم يكن المهندس محمد سيد صابر بطلاً لفيلم تجسس هوليودي، ولا ظهر على الشاشات بقبعة عريضة ونظارة سوداء، يتنقل بين العواصم بجوازات سفر مزيفة وأسماء مستعارة. كان مجرد شاب مصري عادي، هادئ الملامح، يحمل شهادة في الهندسة النووية، التحق بالعمل في هيئة الطاقة الذرية المصرية، في وظيفة يحلم بها الكثيرون، لكنها بالنسبة له لم تكن سوى بوابة عبور نحو أطماع أكبر.
بدأ صابر مسيرته العملية كما يبدأ أي شاب طموح، لكنه لم يكن يملك صبر العلماء ولا عزيمة الباحثين. كان يرى أن الطريق إلى الثروة أقصر مما يبدو، وأن الولاء لا يُمنح بلا مقابل. وفي داخله، أخذت تتكون معادلة خطيرة: “إذا لم تمنحني بلادي ما أريد، فثمة جهة أخرى ستفعل.”
كانت لحظة التحول حين سافر في دورة تدريبية إلى هونغ كونغ، حيث اقترب منه رجل غريب بلكنة أوروبية، يتحدث بهدوء مشجع على الثقة. عرض عليه حياة مريحة، راتبًا بالدولار، وتأشيرات سفر، مقابل “تعاون محدود” لا أكثر — مجرد “معلومات عامة”، كما وصفها. لكن ذلك “التعاون المحدود” لم يكن سوى المدخل إلى خيانة كاملة.
لم يكن الرجل سوى ضابط في جهاز الاستخبارات الإسرائيلي “الموساد”، متنكرًا في ثوب باحث دولي. واللقاء الأول لم يكن سوى اختبار، اجتازه صابر دون أن يتردد أو يسأل أو حتى يتظاهر بالتحفظ. وافق على الصفقة الشيطانية، وعاد إلى القاهرة محمّلًا باتفاق غير مكتوب: أن يبيع ما يعرف، وأن يتقاضى الثمن.
منذ تلك اللحظة، بدأ مهندس الطاقة النووية يتحول إلى جاسوس من الداخل. صور الوثائق، جمع التقارير، حصر أسماء العلماء وخطط الأبحاث، وسرّبها إلى عملائه. استخدم كاميرات صغيرة، وذاكرات محمولة، وأحيانًا مجرد أوراق مطوية بعناية. بل أُعطي برنامجًا خبيثًا ليزرعه في حواسيب هيئة الطاقة الذرية المصرية.
لكن صابر لم يكن يدرك أن هناك عيونًا لا تنام. المخابرات العامة المصرية رصدت كل شيء — مراقبة دقيقة، تحليل للمكالمات، تتبع لحساباته، وملاحظة تضخم دخله وثرائه المفاجئ. وحين اكتملت خيوط الشبكة، حانت اللحظة.
في فبراير 2007، وبينما كان عائدًا من الخارج، أُسدل الستار على اللعبة. قبض عليه متلبسًا، بحوزته وثائق سرية، ومبالغ مالية بالدولار، وجهاز كمبيوتر مليء بالملفات المشفرة. وفي التحقيقات، انهار سريعًا، معترفًا بكل شيء. حاول التبرير بأن ما فعله “لم يكن خطيرًا”، وأنه “كان يظن أن المعلومات غير مؤثرة”، لكنه كان يكذب. كان يعلم جيدًا أن كل معلومة باعها كانت خيانة صريحة، وأن كل كلمة كتبها قد تساوي حياة عالم، أو أمن منشأة، أو خطة وطن كامل.
في يوليو من العام نفسه، صدر الحكم: السجن المؤبد وغرامة ضخمة، عقابًا على الأضرار التي ألحقها بأنظمة الهيئة. وهكذا انتهت القصة — قصة رجل اختار أن يبيع وطنه مقابل حفنة من الدولارات، ظن أن الخيانة صفقة بلا ثمن، فإذا بها الطريق الأقصر إلى الجحيم.
إن حكاية محمد سيد صابر تذكير صارخ بأن الجاسوسية لم تعد حكرًا على عملاء الظل الذين يتنقلون بين العواصم بأسماء مزيفة، بل قد يرتدي الجاسوس بدلة رسمية، ويحمل بطاقة هوية وطنية، ويجلس صباحًا على مكتب حكومي. لكنها أيضًا حكاية عن رجال لا ينامون — رجال المخابرات المصرية — الذين أثبتوا أن الخيانة لا تفلت من العقاب، وأن يد العدالة أطول من كل وهم بالنجاة.
هكذا انتهت الحكاية… حكاية رجل ظن أن الوطن مجرد صفقة، وأن الخيانة يمكن أن تمر خلسة بين مسام المراقبة. ظن أن المال سيشتري صمته، وأن الظلام سيحميه من أعين الرجال الذين لا ينامون. لكنه اكتشف متأخرًا أن الظلام نفسه له عيون، وأن ثمن الخيانة لا يُدفع فقط في قاعات المحاكم، بل في ليالٍ طويلة حالكة داخل الزنازين، حيث لا يسمع المرء سوى صدى صوته وصوت ذنبه.
إن قصة محمد سيد صابر ليست مجرد صفحة في ملف القضاء، بل هي مرآة لوجه الخيانة حين ترتدي وجوهًا مألوفة. هي درسٌ قاسٍ أن الأوطان لا تُباع، وأن كل ورقة، كل كلمة، كل معلومة تُسرّب، هي خيانة تُسجل، تنتظر لحظة الحساب.
والحساب — مهما تأخر — لا بد أن يأتي.
إضافة تعليق جديد